كيف تصنع ايديولوجيتك

ايديولجيتك = مبدأك = افكارك = شخصيتك = مستقبلك

ابحث عن المعنى الغائب هنـــــــــا

الخميس، 19 أغسطس 2010

مذهب ماركس الاقتصادي


مذهب ماركس الاقتصادي





يقول ماركس في مقدمة كتابه "رأس المال": " ان الهدف النهائي لهذا الكتاب هو ان يكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث"، اي المجتمع الرأسمالي البرجوازي. فدراسة علاقات الانتاج في هذا المجتمع المحدد تاريخياً من حيث ولادة هذه العلاقات وتطورها وزوالها، ذلك هو مضمون مذهب ماركس الاقتصادي. ان الشيء السائد في المجتمع الرأسمالي هو انتاج البضائع. ولهذا يبدأ تحليل ماركس بتحليل البضاعة.



القيمة

البضاعة هي بالدرجة الاولى شيء يسد حاجة من حاجات الانسان. وهي بالدرحة الثانية شيء يمكن مبادلته بشيء آخر. ان منفعة شيء ما تعطيه قيمة استعمالية. اما القيمة التبادلية ـ او القيمة باختصار ـ فهي، اولاً، العلاقة، النسبة، في مبادلة عدد من القيم الاستعمالية من نوع ما بعدد من القيم الاستعمالية من نوع آخر. ان التجربة اليومية تبين لنا ان الملايين والمليارات من مثل هذه المبادلات تقيم دون انقطاع علاقات من التعادل بين القيم الاستعمالية الاكثر تنوعاً والاكثر تبايناً. فما هو العنصر المشترك بين هذه الاشياء المختلفة التي يعادل بعضها ببعض باستمرار في نظام من العلاقات الاجتماعية؟ ان العنصر المشترك بينها هو كونها نتاجات عمل. فعندما يتبادل الناس منتجاتهم يعادلون بين انواع العمل الاكثر تبايناً. ان انتاج البضائع هو نظام من العلاقات الاجتماعية يخلق فيه شتى المنتجين منتجات متنوعة (التقسيم الاجتماعي للعمل) ويعادلون بينها عند التبادل. وبالتالي ان العنصر المشترك بين جميع البضائع ليس هو العمل في فرع معين من الانتاج وليس هو عملاً من نوع خاص، بل هو العمل الانساني المجرد، العمل الانساني بوجه عام. ففي مجتمع معين تؤلف كل قوة العمل الممثلة في مجموع قيم كل البضائع قوة عمل انساني واحدة موحدة. والدليل على ذلك المليارات من امثلة التبادل. وهكذا فكل بضاعة مأخوذة بمفردها لا تمثل سوى جزء ما من وقت العمل الضروري اجتماعياً. ان كمية القيمة تحدد بقيمة العمل الضروري اجتماعياً او بوقت العمل الضروري اجتماعياً لانتاج بضاعة معينة. اي قيمة استعمالية معينة. "ان المنتجين حين يعتبرون منتجاتهم المختلفة متساوية عند تبادلها يقرون بذلك ان اعمالهم المختلفة متساوية وهم لا يدركون ذلك ولكنهم يفعلونه". لقد قال اقتصادي قديم: ان القيمة هي العلاقة بين شخصين. وكان عليه ان يضيف بكل بساطة الى قوله هذا: علاقة مغلفة بغلاف مادي. ذلك انه لا يمكن فهم القيمة الا بالاستناد الى مجمل علاقات الانتاج الاجتماعية لتشكيلة تاريخية معينة. اي العلاقات التي تظهر عند التبادل هذه الظاهرة الجماهيرية التي تتكرر مليارات المرات. "ان البضائع بوصفها قيماً ليست الا كميات محدودة من وقت العمل المتجمد" ("مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"). وبعد تحليل مفصل للصفة المزدوجة للعمل المجسد في البضائع ينتقل ماركس الى تحليل اشكال القيمة والعملة (النقد). والمهمة الرئيسية التي يضعها نصب عينيه اذ ذاك هي ان يبحث عن منشأ الشكل النقدي للقيمة، وان يدرس التفاعل التاريخي لتطور التبادل ابتداء من اعمال التبادل الفردية والعرضية ("شكل بسيط منفرد وطارئ للقيمة": كمية معينة من بضاعة ما تبادل مقابل كمية معينة من بضاعة اخرى) حتى الشكل العام للقيمة عندما يبادل عدد من البضائع المختلفة ببضاعة واحدة معينة، حتى الشكل النقدي للقيمة حيث يصبح الذهب بمثابة تلك البضاعة المعينة، بمثابة المعادل العام. ان النقد بوصفه النتاج الأعلى لتطور التبادل وانتاج البضائع يطمس، يخفي، الصفة الاجتماعية للعمل الفردي اي العلاقة الاجتماعية بين المنتجين المنفردين الذين يرتبطون ببعضهم البعض بواسطة السوق. ويخضع ماركس لتحليل مفصل الى اقصى حد شتى وظائف النقد. ومن المهم الملاحظة هنا ايضاً (كما في جميع الفصول الأولى من كتاب "رأس المال") ان الشكل المجرد للعرض الذي يبدو احياناً استدلالياً فقط يعرض في الواقع مصادر وافرة الغنى حول تاريخ تطور التبادل وانتاج البضائع. "ان النقد يفترض مستوى معيناً من التبادل البضاعي. ان شتى اشكال النقد، بوصفه معادلاً بسيطاً، ووسيلة للتداول، ووسيلة للدفع، و كنزاً مخزوناً، ونقداً عالمياً ـ تدل بالمقارنة بين تفوق وظيفة على اخرى على مراحل مختلفة جداً من الانتاج الاجتماعي" ("رأس المال"،المجلد الاول).



القيمة الزائدة

في درجة ما من تطور انتاج البضائع يتحول النقد الى رأس مال. لقد كانت صيغة تداول البضائع: ب (بضاعة) ـ ن (نقد) ـ ب (بضاعة)، اي بيع بضاعة في سبيل شراء غيرها. اما صيغة رأس المال العامة فهي بالعكس: ن ـ ب ـ ن ـ اي شراء في سبيل بيع (مع ربح). ان هذه الزيادة في القيمة الاولى للنقد الذي وضع قيد التداول هي ما يسميه ماركس "القيمة الزائدة". و"زيادة" المال هذه في التداول الرأسمالي واقع معروف لدى الجميع. ان هذه "الزيادة" بعينها هي التي تحول المال الى رأسمال بوصفه علاقة انتاج اجتماعية خاصة محددة تاريخياً. ولا يمكن للقيمة الزائدة ان تنجم عن تداول البضائع لان هذا التداول لا يعرف سوى تبادل اشياء متعادلة، ولا يمكن لها ايضاً ان تنجم عن ارتفاع الاسعار لان الخسائر والارباح لدى كل من الشارين والبائعين تتوازن، والحال ان الامر يتعلق بظاهرة اجتماعية وسطية ومعممة لا بظاهرة افرادية. فمن أجل الحصول على القيمة الزائدة "يجب ان يتمكن صاحب المال من اكتشاف بضاعة في السوق، لها قيمة استعمالية، تتمتع بميزة خاصة هي ان تكون مصدراً للقيمة"، اي بضاعة تكون عملية استهلاكها في الوقت نفسه عملية تخلق قيمة. وبالفعل هذه البضاعة موجودة: انها قوة العمل الانساني. ان استهلاكها هو العمل والعمل يخلق القيمة. ان صاحب المال يشتري قوة العمل بقيمتها التي يحددها، كما يحدد قيمة كل بضاعة اخرى، وقت العمل الضروري اجتماعياً لانتاج البضاعة (اي نفقات اعالة العامل وعائلته). وحين يشتري صاحب المال قوة العمل يصبح من حقه ان يستهلكها اي ان يجعلها تعمل طوال النهار ولنقل 12 ساعة. ولكن العامل حين يشتغل 6 ساعات (اي وقت العمل "الضروري") يعطي انتاجاً يغطي نفقات اعالته وفي الساعات الست الاخرى (اي وقت العمل "الزائد") يعطي انتاجاً "زائداً" لا يدفع الرأسمالي اجرة عنه، اي يعطي القيمة الزائدة. وبالتالي فمن وجهة نظر عملية الانتاج يجب ان نميز قسمين في الرأسمال: الرأسمال الثابت الذي ينفق على وسائل الانتاج (الات، وادوات عمل، ومواد اولية الخ.) وتنتقل قيمته كما هي (دفعة واحدة او دفعات) الى المنتوج التام الصنع، والرأسمال المتغير (المتحرك) الذي ينفق على قوة العمل. وقيمة هذا الرأسمال لا تظل ثابتة بل تنمو في عملية الانتاج، اذ تخلق القيمة الزائدة. وعليه فمن اجل التعبير عن درجة استثمار الرأسمال لقوة العمل يجب مقارنة القيمة الزائدة لا بالرأسمال كله بل بالرأسمال المتغير. ان معدل القيمة الزائدة، الاسم الذي اطلقه ماركس على هذه العلاقة، سيكون في مثلنا 6/6 او 100 بالمائة.

ان المقدمة التاريخية لظهور الرأسمال هي في الدرجة الاولى تراكم كمية معينة من المال في ايدي عدد من الافراد في حين بلغ انتاج البضائع درجة ارتفاع نسبي. وهي، في الدرجة الثانية، وجود عمال "احرار" من وجهتين: من وجهة انهم احرار من كل تضييق و من كل تقيد في بيع قوة عملهم، واحرار لانهم لا يملكون ارضاً ولا وسائل انتاج بوجه عام، اي وجود عمال احرار وغير مقيدين، اي وجود عمال "بروليتاريين" لا يستطعيون العيش بغير قوة عملهم.

ان ازدياد القيمة الزائدة امر ممكن بفضل وسيلتين اساسيتين: تمديد يوم العمل ("قيمة زائدة مطلقة") والتقليص في يوم العمل الضروري ("قيمة زائدة نسبية"). وعندما يحلل ماركس الوسيلة الاولى يرسم لوحة رائعة لنضال الطبقة العاملة في سبيل تقليص يوم العمل ولتدخل سلطة الدولة في سبيل تمديده (من القرن الرابع عشر الى القرن السابع عشر) وفي سبيل تقليصه (تشريع المصانع في القرن التاسع عشر). و منذ نشر كتاب "رأس المال" قدم تاريخ الحركة العمالية في جميع البلدان المتمدنة في العالم عدداً لا يحصى من الوقائع الجديدة التي تبرهن على صدق هذه اللوحة.

ان ماركس عند تحليله القيمة الزائدة النسبية يدرس المراحل التاريخية الاساسية الثلاث لزيادة انتاجية العمل من قبل الرأسمالية:

1- التعاون البسيط.

2- تقسيم العمل والمانيفاكتورة.

3- الآلات والصناعة الكبرى.

ان العمق الذي يكشف به ماركس الخطوط الاساسية النموذجية لتطور الرأسمالية يظهر فيما يظهر من كون دراسة الصناعة المسماة الصناعة "الحرفية" في روسيا تقدم ادلة وافرة جداً توضح وتبرز المرحلتين الاوليتين من هذه المراحل الثلاث. اما عمل الصناعة الميكانيكية الضخمة الثوري الذي وصفه ماركس في 1867 فقد ظهر خلال نصف القرن المنصرم منذ ذلك الحين في عدة بلدان "جديدة" (روسيا واليابان وغيرهما).

وبعد فان الامر الهام والجديد الى اقصى حد عند ماركس هو تحليل تراكم الرأسمال. اي تحول قسم من القيمة الزائدة الى رأسمال، واستعماله لا لسد حاجات الرأسمالي الشخصية او لارضاء نزواته بل للانتاج من جديد. لقد اشار ماركس الى خطأ الاقتصاد السياسي الكلاسيكي السابق كله (ابتداء من ادم سميث) الذي يعتبر ان كل القيمة الزائدة التي تتحول الى رأسمال تذهب الى الرأسمال المتغير بينما هي في الحقيقة تنقسم الى وسائل انتاج و رأسمال متغير. وفي عملية تطور الرأسمالية وتحولها الى الاشتراكية يرتدي ازدياد حصة الرأسمال الثابت بمزيد من السرعة (من اصل مجمل رأس المال) بالقياس الى حصة الرأسمال المتغير اهمية اولية.

ان تراكم الرأسمال بتعجيله في احلال الآلة محل العمال، وبخلقه الثراء في قطب والبؤس في قطب آخر، يخلق ايضاً ما يسمى "باحتياطي جيش العمل" او "الفائض النسبي من العمال" او "فيض السكان الرأسمالي" الذي يرتدي اشكالاً متنوعة الى اقصى حدود التنوع، ويمكن الرأسمال من ان يوسع الانتاج بسرعة بالغة. ان هذه الامكانية اذا نسقت مع التسليف وتراكم الرأسمال بشكل وسائل الانتاج تعطينا فيما تعطيه مفتاحاً لفهم ازمات فيض الانتاج التي كانت في البدء تحصل على نحو دوري في البلدان الرأسمالية مرة في كل عشر سنوات تقريباً، ومن ثم في فترات اقل تقارباً واقل ثباتاً. ويجب التمييز بين تراكم الرأسمال على اساس الرأسمالية، والتراكم المسمى بالتراكم "البدائي" الذي يتصف بفصل الشغيل فصلاً عنيفاً عن وسائل الانتاج ويطرد الفلاحين من اراضيهم وبسرقة الاراضي المشاعية وبنظام المستعمرات وبالديون العامة وبرسوم الحماية الخ...ان "التراكم البدائي" يخلق البروليتاري "الحر" في قطب، وفي قطب آخر القابض على المال، الرأسمالي.

ويصف ماركس "الاتجاه التاريخي للتراكم الرأسمالي" بهذه العبارات المشهورة: "ان انتزاع ملكية المنتجين المباشرين يتم باشد النزعات الى الهدم والتدمير بعداً عن الشفقة وبدافع من احط المشاعر واحقرها واشدها تفاهة وحقداً. فالملكية الخاصة المكتسبة بعمل المالك" (عمل الفلاح والحرفي) "والقائمة اذا جاز التعبير على اندماج الشغيل الفردي المستقل مع ادوات ووسائل عمله تزيحها الملكية الخاصة الرأسمالية التي ترتكز على استثمار قوة عمل الغير الذي لا يتمتع بغير حرية شكلية ... اما من يتعلق الامر الآن بانتزاع ملكيته فلم يعد المقصود العامل الذي يدير استثمارة مستقلة بنفسه بل الرأسمالي الذي يستثمر العديد من العمال. ان انتزاع الملكية هذا يتم بفعل القوانين الملازمة للانتاج الرأسمالي نفسه عن طريق تمركز الرساميل. ان رأسمالياً واحداً يقضي على الكثيرين من امثاله. والى جانب هذا التمركز اي انتزاع بعض الرأسماليين ملكية عدد كبير من امثالهم يتطور الشكل التعاوني لسير العمل على مقياس يتسع اكثر فاكثر، كما يتطور تطبيق العلم على التكنيك تطبيقاً فطناً و متعقلاً واستثمار الارض استثماراً منهجياً وتحويل وسائل العمل الى وسائل للعمل لا يمكن استعمالها الا استعمالاً مشتركاً، وتوفير جميع وسائل الانتاج باستعمالها كوسائل انتاج لعمل اجتماعي منسق، ودخول جميع الشعوب في شبكة السوق العالمية. وتتطور الى جانب كل ذلك الصفة العالمية للنظام الرأسمالي. وبقدر ما يتناقص باستمرار عدد دهاقنة الرأسمال الذين يغتصبون ويحتكرون جميع منافع عملية التحول هذه بقدر ما يشتد ويستشري البؤس والظلم والاستعباد والانحطاط والاستثمار. وبقدر ما يزداد ايضاً تمرد الطبقة العاملة التي تتثقف وتتحد وتنتظم بفعل آلية عملية الانتاج الرأسمالي نفسها. وهكذا يصبح احتكار الرأسمال قيد لاسلوب الانتاج الذي نشأ معه وبه. ان تمركز وسائل الانتاج وجعل العمل اجتماعياً ينتهيان الى حد انهما لا يعودان يتطابقان مع اطارهما الرأسمالي فينفجر. ان الساعة الاخيرة للملكية الخاصة الرأسمالية تدق. ان مغتصبي الملكية تنزع منهم ملكيتهم" ("رأس المال"، المجلد الاول).

ثم ان ما هو جديد وذو اهمية كبرى انما هو تحليل ماركس في المجلد الثاني من "رأس المال" لتجديد انتاج الرأسمال الاجتماعي بمجموعه. وهنا ايضاً لا يأخذ ماركس بعين الاعتبار ظاهرة عامة ولا جزءا من الاقتصاد الاجتماعي بل الاقتصاد الاجتماعي بكليته. ان ماركس عند اصلاحه خطأ الكلاسيكيين المشار اليهم انفاً يقسم مجموع الانتاج الاجتماعي الى قسمين كبيرين: اولاً، انتاج وسائل الانتاج وثانياً، انتاج سلع الاستهلاك. ثم، بالاستناد الى ارقام ياخذها على سبيل المثال، يدرس درساً دقيقاً تداول الرأسمال الاجتماعي بمجموعه سواء في تجديد الانتاج البسيط ام في التراكم. وفي المجلد الثالث من "رأس المال" تجد مسالة المعدل الوسطي للربح حلاً لها بالاستناد الى قانون القيمة. ولقد تحقق تقدم كبير في العلم الاقتصادي نظراً الى ان ماركس يبني تحليله على ظواهر اقتصادية كثيرة، على مجموع الاقتصاد الاجتماعي، لا على ظواهر منعزلة او على مظهر المزاحمة الخارجي السطحي الذي غالباً ما يقف عنده الاقتصاد السياسي المبتذل او ما يسمونه نظرية الحد الاقصى من النفع الحديثة([30]). ان ماركس يحلل في الدرحة الاولى مصدر القيمة الزائدة ليدرس بعد ذلك انقسامها الى ربح وفائدة وريع عقاري. اما الربح فهو نسبة القيمة الزائدة الى مجموع الرأسمال الموظف في مشروع ما. والرأسمال "ذو التركيب العضوي العالي"(اي عندما يتجاوز الرأسمال الثابت الرأسمال المتغير بنسب اعلى من المعدل الاجتماعي الوسطي) يعطي معدلاً من الربح ادنى من المعدل الوسطي. والرأسمال "ذو التركيب العضوي المنخفض" يعطي معدلاً من الربح اعلى من المعدل الوسطي. ان تزاحم الرساميل وانتقالها الحر من فرع الى آخر يحملان في الحالتين معدل الربح الى المعدل الوسطي. ان مجموع قيم جميع البضائع في مجتمع معين يوازي مجموع اثمان البضائع، ولكن في كل مشروع بمفرده وبفعل المزاحمة تباع البضائع لا بحسب قيمتها بل بسعر الانتاج ( او السعر الانتاجي) الذي يعادل الرأسمال المصروف مضافاً اليه الربح الوسطي.

وهكذا فان انحراف السعر عن القيمة والتوزيع المتساوي للربح ـ هذا الواقع الذي لا يقبل الجدل والمعروف لدى الجميع ـ يوضحه ماركس تمام الايضاح بالاستناد الى قانون القيمة. اذ ان مجموع قيم جميع البضائع يعادل مجموع اسعارها. ولكن الطريق من القيمة (الاجتماعية) الى الاسعار (الافرادية) ليس بسيطاً ومباشراً بل طريق معقد جداً. فمن الطبيعي تماماً في مجتمع يكون فيه منتجو البضائع متفرقين وغير مرتبطين فيمن بينهم الا بواسطة السوق، ان لا يسري مفعول القوانين الا بصورة وسطية اجتماعية عامة مع ازالة الانحرافات الافرادية من هذه الجهة وتلك.

ان ازدياد انتاجية العمل يعني نمواً اسرع في الرأسمال الثابت بالقياس الى الرأسمال المتغير. ولكن لما كانت القيمة الزائدة لا ترتبط الا بالرأسمال المتغير اصبح من المفهوم ان يميل معدل الربح (اي نسبة القيمة الزائدة الى مجموع الرأسمال لا الى القسم المتغير منه فقط) الى الهبوط. ان ماركس يحلل تحليلاً دقيقاً جداً هذا الميل، كما يحلل الظروف التي تخفيه او تعاكسه. ودون ان نتوقف عند الفصول العظيمة الاهمية في المجلد الثالث المكرسة لرأسمال الربا والرأسمال التجاري والرأسمال النقدي، ننتقل الى الجزء الاكثر اهمية الا وهو نظرية الريع العقاري. لما كانت مساحة الارض محدودة ويشغلها تماماً في البلدان الرأسمالية ملاكون فرديون اصبح ثمن انتاج المنتجات الزراعية لا يتحدد بواسطة نفقات الانتاج على ارض وسطية بل على ارض من النوع الاسوأ، ولا بواسطة الشروط الوسطية لنقل المنتجات الى السوق بل تبعاً للشروط الاقل ملاءمة. ان الفرق بين هذا الثمن وثمن الانتاج على ارض اجود نوعاً (او في شروط احسن) يعطي الريع الفرقي (او المتفاوت). ان ماركس بالاستناد الى تحليل مفصل لهذا الريع يبين فيه ان هذا الريع ينجم عن التفاوت (الفرق) في جودة الاراضي، وعن تفاوت (فرق) الرساميل الموظفة في الزراعة، قد اوضح وضوحاً تاماً (انظر ايضاً "نظريات القيمة الزائدة" حيث يستحق انتقاد رودبرتوس اهتماماً خاصاً) خطأ ريكاردو الذي يزعم ان الريع الفرقي لا يحصل الا بالانتقال الدائم من اراض اكثر جودة الى اراض اقل جودة. فالامر على خلاف ذلك: فان تغيرات معاكسة قد تحدث ايضاً. فالاراضي من فئة معينة تتحول الى اراض من فئة اخرى (بفعل ارتفاع مستوى الزراعة ونمو المدن الخ). والقانون الشهير"قانون تناقص خصب التربة" يبدو بمثابة خطأ عميق يرمي الى القاء عيوب الرأسمالية وحدودها الضيقة وتناقضاتها على كاهل الطبيعة. ثم ان تساوي الربح في جميع فروع الصناعة والاقتصاد الوطني بوجه عام يفترض حرية تامة في المزاحمة وحرية نقل الرأسمال من فرع الى آخر. ولكن الملكية الخاصة للارض تخلق احتكاراً وعقبة في وجه حرية النقل هذه. ان منتجات الزراعة التي تتميز بتركيب منخفض في رأسمالها، والتي تعطي بالتالي معدلاً اعلى للربح الفردي، لا تدخل بفعل هذا الاحتكار في عملية تساوي معدل الربح الحرة تماماً. فالمالك الذي يحتكر الارض يتمكن من ابقاء السعر في معدل اعلى من الوسط، وهذا السعر الاحتكاري يخلق الريع المطلق. ان الريع الفرقي لا يمكن الغاؤه في النظام الرأسمالي، وعكساً لذلك يمكن الغاء الريع المطلق بتأميم الارض، مثلاً عندما تصبح الارض ملكاً للدولة. ان انتقال الارض هذا الى الدولة يعني تقويض احتكار الملاكين الفرديين، ويعني ايضاً حرية في المزاحمة اكثر انسجاماً واكتمالاً في الزراعة. ولهذا كما يقول ماركس تقدم البرجوازيون الراديكاليون اكثر من مرة في التاريخ بهذا المطلب البرجوازي التقدمي القائل بتأميم الارض. هذا المطلب الذي يخيف مع ذلك اكثر البرجوازية لانه "يمس" عن قرب احتكاراً آخر له في ايامنا هذه اهمية خاصة و"حساسية" خاصة، وهو احتكار وسائل الانتاج بوجه عام. (ان هذه النظرية حول الربح الوسطي للرأسمال وحول الريع العقاري المطلق قد عرضها ماركس باسلوب رائع بسيط ومختصر وواضح في رسالته الى انجلز بتاريخ 2 اب/اوت سنة 1862. انظر "المراسلات"، المجلد الثالث، ص 77-81، ورسالته المؤرخة في 9 اب/اوت سنة ،1862 ص 86-87، المصدر نفسه). ومن الاهمية بمكان اايضاً الاشارة في تاريخ الريع العقاري الى تحليل ماركس الذي يبين تحول الريع ـ العمل (عندما يخلق الفلاح نتاجاً اضافياً بعمله في ارض الملاك) الى ريع ـ انتاج، او الى ريع عيني (عندما يخلق الفلاح على ارضه نتاجاً اضافياً يقدمه للملاك بموجب "الاكراه غير الاقتصادي") ثم الى ريع نقدي (اذ يتحول هذا الريع العيني الى نقد ـ "اوبروك" اي اتاوة في روسيا القديمة ـ بسبب تطور انتاج البضائع)، واخيراً الى ريع رأسمالي عندما يحل محل الفلاح في الزراعة رب عمل يزرع الارض باللجوء الى العمل المأجور. ولنشر بصدد هذا التحليل "لتولد الريع العقاري الرأسمالي" الى جملة من افكار ماركس العميقة (ذات الاهمية الخاصة بالقياس الى البلدان المتاخرة كروسيا مثلاً) حول تطور الرأسمالية في الزراعة. "مع تحول الريع العيني الى ريع نقدي، تتكون بالضرورة، في الوقت نفسه وحتى مسبقاً، طبقة من المياومين الذين لا يملكون ويعملون بالاجرة. وفي الوقت الذي تتكون فيه هذه الطبقة التي لم تكن ظهرت الا ظهوراً متفرقاً يكون الفلاحون الميسورون الملزمون بدفع اتاوة قد اعتادوا بالطبع استثمار بعض الاجراء الزراعيين لحسابهم الخاص كما كان يحدث تماماً في النظام الاقطاعي، حيث كان للفلاحين الاقنان الميسورين اقنان اخرون ايضاً. ومن هنا كانت تتوافر لهم امكانية جمع الثروة شيئاً فشيئاً وتحويل انفسهم الى رأسماليين مقبلين.

وهكذا تتكون بين مالكي الارض القدماء، ممن يديرون استثمارات مستقلة، بيئة تنبت مستأجري الاراضي الرأسماليين الذين يرتبط تطورهم بالتطور العام للانتاج الرأسمالي خارج الزراعة" ("رأس المال"، المجلد الثالث، 2، ص 332)..."ان انتزاع ملكية قسم من سكان الارياف وطردهم من الريف لا "يحرران" عمالاً ووسائل للعيش والعمل لهم من اجل الرأسمال الصناعي وحسب بل يخلقان السوق الداخلية ايضاً" ("رأس المال"، المجلد الاول، 2، ص 778). ان املاق وخراب سكان الارياف يسهمان بدورهما في انشاء جيش احتياطي من العمال للرأسمال . لهذا في كل بلد رأسمالي "يوجد دائماً قسم من سكان الارياف يوشك على الدوام ان يتحول الى سكان مدن او الى سكان يعملون في الصناعة (اي غير زراعيين). وهذا المورد لتزايد السكان النسبي لا ينضب ابداً...فالعامل الزراعي مكره على تقاضي الحد الادنى من الاجرة ويقف دائماً على احدى رجليه في مستنقع الاملاق" ("رأس المال"،المجلد الاول، 2، ص 668). ان ملكية الفلاح الخاصة للارض التي يزرعها تؤلف اساس الانتاج الصغير. تؤلف الشرط الذي يسمح لهذا الانتاج بان يزدهر وياخذ شكلاً كلاسيكياً. ولكن هذا الانتاج الصغير لا ينسجم الا مع الاطارات البدائية الضيقة للانتاج والمجتمع. ففي النظام الرأسمالي "لا يتميز استثمار الفلاحين عن استثمار البروليتاريا الصناعية الا من حيث الشكل. فالمستثمر هو هو، اي الرأسمال. إن الرأسماليين، كلا بمفرده، يستثمرون الفلاحين كلا بمفرده بواسطة الرهن والربا. ان طبقة الرأسماليين تستثمر طبقة الفلاحين بواسطة الضرائب" ("نضال الطبقات في فرنسا"). "ان ارض الفلاح الصغيرة لم تعد سوى ذريعة تتيح للرأسمال ان يجني من الارض ربحاً وفائدة وريعاً، وان يترك لمالك الارض نفسه امر الاهتمام بالطريقة التي يراها ناجحة للحصول على اجرته" ("18 برومير"). بل ان الفلاح يقدم عادة الى المجتمع الرأسمالي، اي الى طبقة الرأسماليين قسماً من اجرته، ويقع على هذا النحو "في حالة المكتري الارلندي مع احتفاظه بمظهر المالك الفردي" ("نضال الطبقات في فرنسا"). فما هو اذن "احد الاسباب التي تؤدي الى ان يكون سعر الحبوب في البلدان التي تسود فيها الملكية الصغيرة للارض اقل منه في البلدان ذات اسلوب الانتاج الراسمالي؟" ("رأس المال"، المجلد الثالث، 2، ص 340) ذلك ان الفلاح يقدم مجاناً الى المجتمع (اي طبقة الرأسماليين) قسماً من انتاجه الزائد. "ان هذا السعر المنخفض (اي سعر الحبوب وبقية المنتجات الزراعية) ينجم اذن عن فقر المنتجين ولا ينجم ابداً عن انتاجية عملهم". ("رأس المال"، المجلد الثالث، 2، ص 340). فان الملكية الزراعية الصغيرة التي هي الشكل العادي للانتاج الصغير تتدهور في النظام الرأسمالي وتبيد وتهلك. "ان الملكية الصغيرة للارض تحول بحكم طبيعتها دون تطور قوى العمل الانتاجية الاجتماعية واشكال العمل الاجتماعية وتمركز الرساميل الاجتماعي وتربية المواشي على نطاق كبير وتطبيق العلم تطبيقاً مطرداً. ان الربا ونظام الضرائب يحتمان خراب الملكية الزراعية الصغيرة في كل مكان. فينتزع من الزراعة الرأسمال الموظف لشراء الارض. وتجزأ وسائل الانتاج الى ما لانهاية ويتبعثر المنتجون". (ان التعاونيات اي جمعيات الفلاحين الصغار التي تقوم باعظم دور تقدمي برجوازي يمكنها فقط ان تضعف هذا الاتجاه دون ان تمحوه ويجب ان لا ننسى ايضاً ان هذه التعاونيات تعطي كثيراً للفلاحين الميسورين ولكنها تعطي قليلاً جداً لجمهور الفلاحين الفقراء او لا تعطيهم شيئا تقريباً. ثم ان الامر ينتهي بهذه الجمعيات الى ان تستثمر بنفسها العمل المأجور). "فهناك تبذير هائل للقوة الانسانية. ان تفاقم شروط الانتاج تفاقماً مطرداً و ارتفاع اسعار وسائل الانتاج هما قانونان ملازمان للملكية الصغيرة المجزأة". ("رأس المال المجلد الثالث). ففي الزراعة كما في الصناعة لا يظهر التحول الرأسمالي في اسلوب الانتاج إلا على حساب "شهادة المنتج". "ان تبعثر العمال الزراعيين على مساحات كبرى يحطم قوة مقاومتهم في حين يزيد التجمع قوة مقاومة عمال المدن. وفي الزراعة الحديثة الرأسمالية كما في الصناعة الحديثة يتم التوصل الى نمو قوة العمل الانتاجية والى زيادة قابليته للحركة عن طريق تحطيم قوة العمل بالذات واستنفادها. ومن جهة اخرى كل تقدم للزراعة الرأسمالية هو تقدم لا في فن نهب الشغيل فحسب بل في فن نهب الارض ايضاً ... فالانتاج الرأسمالي اذن لا يطور التكنيك وتنسيق عملية الانتاج الاجتماعية الا باستنزافه في الوقت نفسه الينبوعين اللذين تنبثق منهما كل ثروة: الارض والشغيل" ("رأس المال"،المجلد الاول، نهاية الفصل الثالث عشر).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق